كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لكنْ دَعُوني أُلاَقي مَنْ أؤملُهُ ** عَيْني تَرَاهُ وَوُجَْدَاني يُنَاجيه

كذلك الحق- تبارك وتعالى- يريد من عبده أنْ يقصده لذَاته، لا خوفًا من ناره، ولا طمعًا في جنته، وفَرْق بين أن تنعم بنعمة الله، وأن تنعم بالنظر إلى الله، فأنت في الجنة تأكل، لا عن جوع ولا عن حاجة، إنما لمجرد التنعُّم.
لذلك يقول سبحانه عن الشهداء: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتلُوا في سَبيل الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عندَ رَبّهمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فتكفيهم هذه العندية، وأنْ ينظروا إلى الله سبحانه وتعالى.
لذلك تقول رابعة العدوية: اللهم إنْ كنتَ تعلم أنّي أعبدك طمعًا في جنتك فاحرمني منها، وإنْ كنتَ تعلم أني أعبدك خوفًا من نارك فأدخلني فيها، لكني أعبدك لأنك أحقُّ أنْ تُعبدَ.
ولا شكَّ أن القليل من الناس يخلصون النية لله، وأن الغالبية يعملون العمل كما اتفق على أية نية، لا تعنيهم هذه المسألة، ولا يهتمون بها، كما قال سبحانه: {وَمَا يُؤْمنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إلاَّ وَهُمْ مُّشْركُونَ} [يوسف: 106].
{منَ الَّذينَ فَرَّقُوا دينَهُمْ وَكَانُوا شيَعًا كُلُّ حزْبٍ بمَا لَدَيْهمْ فَرحُونَ (32)}.
فرَّقوا دينهم كالركْب الذين اختلفتْ وجهاتهم ونياتهم {وَكَانُوا شيَعًا} [الروم: 32] جمع شيعة، وهم الجماعة المتعاونة على أمر من الأمور، خيرًا كان أو شرًا، خيرًا مثل قوله تعالى: {وَإنَّ من شيعَته لإبْرَاهيمَ} [الصافات: 83].
أو شرًا مثل: {إنَّ فرْعَوْنَ عَلاَ في الأرض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شيَعًا} [القصص: 4].
وفي آية أخرى: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مّن فَوْقكُمْ أَوْ من تَحْت أَرْجُلكُمْ أَوْ يَلْبسَكُمْ شيَعًا وَيُذيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].
وقوله تعالى: {كُلُّ حزْبٍ بمَا لَدَيْهمْ فَرحُونَ} [الروم: 32] لما لهم من سلطة زمنية، ولما لهم من مكانة يخافون أنْ تهتز كالسلطة الزمنية التي منعتْ يهود المدينة من الإيمان برسول الله، مع أنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويعرفون زمانه، وكانوا يقيمون بالمدينة ينتظرون ظهوره، وكل ذلك عندهم في التوراة، حتى إنهم كانوا يصطدمون بعبدة الأصنام، فيقولون لهم. لقد أطلَّ زمن نبي يظهر آخر الزمان سنتبعه، ونقتلكم به قتْل عاد وإرم.
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا به} [البقرة: 89].
لماذا؟ حفاظًا على سلطتهم الزمنية، وقد كانوا أهل علم وغنيً ومكانة، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ألغى هذه السلطة، فلا كلام بعد كلامه صلى الله عليه وسلم، أما مَنْ ثبت منهم على دينه الحق، وعمل بما في التوراة فقد آمن بمحمد كعبد الله بن سلام وغيره من أحبار اليهود.
فالسلطة الزمنية هي التي حالتْ بين الناس وبين الحق الذي يؤمنون به، وهذه السلطة الزمنية هي التي نراها الآن في هذه الفرَق والأحزاب التي يدَّعي كل منها أنها على الحق وما سواها على الباطل.
يقول تعالى: {وَلَو اتبع الحق أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَت السماوات والأرض وَمَن فيهنَّ} [المؤمنون: 71].
فكل منهم يناطح الآخرين ليعلي مذهبه، ويظهر هو على الساحة.
بعد ذلك يُبيّن لنا الحق سبحانه أن الذين يكفرون بالله، أو يتمردون على منهج الله يظلون هكذا أسْرى هذه السلطة الزمنية، فإذا أصابتهم هزة أو بلاء لا تقوى أسبابهم على دفعه لم يجدوا ملجأ إلا الله، فقال سبحانه: {وَإذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ}.
الضر: هو الشيء الذي نتضرر منه، ولا تستطيبه النفس، فإنْ أصابهم الضر وأسبابهم لا تفي بالخلاص منه {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُّنيبينَ إلَيْه} [الروم: 33] أي: رجعوا إليه سبحانه، والآن علموا أن لهم ربًا يلجئون إليه، وهذا يُذكّرنا بما قاله العرب عندما فتر الوحي عن رسول الله، فسرَّهم ذلك، وقالوا: إن رب محمد قلاه سبحان الله الآن عرفتم أن لمحمد ربًا.
وقلنا: إن ساعة الضيق والمحنة لا يَكْذب الإنسان نفسه ولا يخدعها، وسبق أنْ ذكرنا قصة حلاق الصحة الذي كان يحلّ محلّ الطبيب الآن، فلما أنشئت كليات للطب وخرَّجت أطباء، وذهب أحدهم إلى قرية الحلاق، فأخذ الحلاق يهاجمه ويدَّعي أنه حديث لا خبرةَ له، فلما مرض ابنه وأحسَّ بالخطر أخذه خُفْية في ظلام الليل، وذهب به إلى الطبيب، لماذا؟ لأنه لن يغشَّ نفسه في هذه اللحظة.
{ثُمَّ إذَآ أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً إذَا فَريقٌ مّنْهُمْ برَبّهمْ يُشْركُونَ} [الروم: 33] أي: يعودون إلى ما كانوا عليه من الشرك بالله.
وحين نتأمل هذه المسألة نجد أن القرآن عرضها مرة بصيغة الإفراد، فقال: {وَإذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنيبًا} [الزمر: 8].
وقال: {وَإذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لجَنبه أَوْ قَاعدًا أَوْ قَآئمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12].
لكن الكلام عن الإنسان المفرد لا يكفي لإثبات الظاهرة؛ لأن الإنسان الواحد يمكن أن يستذل أمام ربه، ويعود إليه بعد أنْ تجرَّأ على معصيته، يكون ذلك بينه وبين نفسه، فلا يفضح نفسه أمام الناس، فأراد سبحانه أنْ يثبت هذه المسألة عند الناس جميعًا؛ ليفضح بعضهم بعضًا، فذكر هنا {وَإذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُّنيبينَ إلَيْه} [الروم: 33].
وفي آية أخرى: {فَإذَا رَكبُوا في الفلك دَعَوُا الله مُخْلصينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى البر إذَا هُمْ يُشْركُونَ} [العنكبوت: 65].
فجاء بصيغة الجمع ليفضح الكافرين بعضهم أمام بعض، وقد يكون في هؤلاء الداعين مَنْ كان يُؤلّبهم على الله، ويصرفهم عن الإيمان به، وها هو الآن يدعو ويتضرع، وحين يُفتضح أمرهم يكون ذلك أَدْعى لاستقامتهم وأدعى ألاَّ يتكبر أحد على أحد.
لذلك قلنا في ميزات الصلاة أنها تُسوّي بين الناس، فيجلس الرجل العادي بجوار مَنْ لم يكُن يُؤْمَل أنْ يجلس بجواره، ويجده خاضعًا معه مطاوعًا للإمام. الخ ففي الصلاة، الجميع سواء، والجميع منتفع بهذه المساواة، آخذ منها عبرة، فلا يتكبر بعدها أحد على أحد.
ونقف هنا عند {مَسَّ} [الروم: 33] وهو اللمس الخفيف، فالمعنى مسَّهم اليسير من الضر، ومع ذلك ضاقتْ أسبابهم عن دفعه، وضَجُّوا يطلبون الغَوْث.
وكلمة {أَذَاقَهُمْ} [الروم: 33] الذوق حاسة من حواس الإنسان يُحسُّ بها الطعام عند مروره على منطقة معينة في اللسان، فإذا ما تجاوز الطعامُ هذه المنطقةَ لا يشعر الإنسان بطعمه.
إذن: فَلذَّة الطعام مقصورة على هذه المنطقة في الفم، والتذوق أقوى انفعالات النفس في استقبال المذاق؛ لذلك يقولون في الأمثال اللي يفوت من اللسان بقي نتان.
وتأمل، كيف استعمل الحق سبحانه الإذاقةَ في مجال العذاب حبن ضرب لنا هذا المثل: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمنَةً مُّطْمَئنَّةً يَأْتيهَا رزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بأَنْعُم الله فَأَذَاقَهَا الله لبَاسَ الجوع والخوف بمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
فذكر الإذاقة مع أن اللباسَ يستوعب الجسم كله، وكذلك الجوع والخوف، فكل منهما إحساس يستولي على الإنسان كله، ومع ذلك قال: {فَأَذَاقَهَا} [النحل: 112] لأن الإذاقة أقوى أنواع الإدراك.
وكلمة {مّنْهُ} [الروم: 33] أي: من الله تعالى، يعني بلا أسباب، أو {أَذَاقَهُمْ مّنْهُ} [الروم: 33] أي: بدَّل الضر برحمة، وخلَّصهم من الضُّرّ برحمة، كما أن الإذاقة وإنْ دلَّتْ على الانفعال الشديد للمستقبل، فإنها أيضًا تدلُّ على التناول الخفيف بلُطْف، كما تقول: ذُقْتُ الطعام. أو تقول: والله ما ذُقْتُ لفلان طعامًا يعني: ما أكلتُ عنده من باب أَو أَوْلى.
لذلك الحق سبحانه وتعالى عبر عن الرحمة هنا بالإذاقة؛ لأن رحمة الدنيا لا تستوعب كل رحمة الله، فالقليل منها في الدنيا، وجُلُّها في الآخرة.
ونلحظ في قوله تعالى: {إذَا فَريقٌ مّنْهُمْ برَبّهمْ يُشْركُونَ} [الروم: 33]، أما في الآية الأخرى: {فَإذَا رَكبُوا في الفلك دَعَوُا الله مُخْلصينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى البر إذَا هُمْ يُشْركُونَ} [العنكبوت: 65].
فلماذا قال في الأولى {إذَا فَريقٌ مّنْهُمْ} [الروم: 33] وفي الأخرى: {إذَا هُمْ يُشْركُونَ} [العنكبوت: 65] فلم يستثْن منهم أحدًا؟
قالوا: لأن الآية الأولى تتكلم عن الذين دَعَوا الله في البَرّ، والناس في البر عادة ما يكونون مختلفين، فيهم الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، فهم مختلفون في رَدّ الفعل، فالمؤمنون لما عَينوا النجاة ورحمة الله قالوا: الحمد الله الذي نجانا، أما المشركون فعادوا إلى كُفْرهم وعنادهم.
أما الآية الأخرى فتتكلم عن الذين دَعَوا الله في البحر، وعادة ما نرى الذين يركبون البحر على شاكلة واحدة، وهم لا يركبونه كوسيلة للسفر، إنما للترف، كما نرى البعض يتخذ لنفسه يختًا مثلًا أو عوَّامة يجمع فيها أتباعه ومَنْ هم على شاكلته، ولابد أنهم يجتمعون على شيء يحبونه، فهم على مذهب واحد، وطريقة واحدة، وسلوك واحد.
إذن: ما دام هؤلاء كانوا في البحر فلابد أنهم كانوا مجرمين عتاة، وكانوا سواسية في الشرك وفي التخلّي عن الله، بمجرد أنْ أمنوا الخطر، لذلك استخدم الأسلوب هنا {إذَا} [الروم: 33] الفجائية واستخدمه في آية أخرى {إذَا هُمْ يُشْركُونَ} [العنكبوت: 65] فبعد أنْ أنجاهم الله أسرعوا العودة إلى ما كانوا عليه من الشرك.
ففي هذه الآية الحق سبحانه يُبيّن لنا حقيقة الإنسان، ومدى حرصه على جَلْب الخير لنفسه، فإنْ كان الخير الذي أعدَّه الله له يُبطره ويُطغيه كما قال سبحانه: {كَلاَّ إنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6-7].
فإنه لا مناصَ له من أنْ يرجع إلى ربه حين ينفض الله عنه كُلَّ أسباب الخير، ويهدده في نفسه وفي ذاته التي لم تنتفع بآيات الله في الكون، فتظل في حضانة الله، فيأتي له بالضرُّ الذي ينفض عنه كلّ أسباب البطَر والأشرَ والاستعلاء.
ولكنه لا يسلم نفسه للضر الذي يهلكه، بل عندها يتنبه أن له ربًا يلجأ إليه، ولا يجد مفزعًا في الكون إلا هو؛ لأنه يعلم جيدًا أن الذين أخذوه من الله فآمن بهم وكفر بالله لن ينفعوه بشيء؛ لأنه عبد من دون الله آلهة لا تضر ولا تنفع.
لذلك يقول تعالى: {وَإذَا مَسَّكُمُ الضر في البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاَّ إيَّاه} [الإسراء: 67] فهؤلاء الذين تدعونهم لا يعرفون طريقكم، وإنْ عرفوا لا يملكون أنْ يصلوا إليكم، أما أنا فربكم الأعلم بكم، والقادر على إغاثتكم، وإنزال الرحمة بكم.
إذن: هؤلاء المشركون أشركوا بالله في وقت الرخاء، أما في وقت الضيق والكرب فلن يخدع أحدهم نفسه، ولن يغشَّها لن يقول: يا هُبَل. لأنه يعلم أن هُبَلَ لا يسمعه ولا يجيبه، فلا ينفعه الآن، ولا ينجيه إلا الإله الحق، فقد ألجأتْه الضرورة أن يعترف به ويدعوه.
ثم يقول الحق سبحانه: {ليَكْفُرُوا بمَآ آتَيْنَاهُمْ}.
يتبادر إلى الذهن أن اللام في {ليَكْفُرُوا} [الروم: 34] لام التعليل، أو لام السببية التي يكون ما بعدها سببًا لما قبلها، كما تقول: ذاكر لتنجح، وكذلك في الشرط والجواب: إنْ تذاكر تنجح فعلَّة المذاكرة النجاح.
فهل يستقيم المعنى هنا على هذا الفهم؟ وهل نجاهم الله وأذاقهم الرحمة ليكفروا به؟
نقول: ليس الشرط سببًا في مجيء الجواب كما يفهم السطحيون في اللغة، بل الجواب هو السبب في الشرط، لكنهم لم يُفرّقوا بين سبب دافع وسبب واقع، فالتلميذ يذاكر لأن النجاح ورد بباله، وتراءتْ له آثاره الطيبة أولًا فدفعتْه للمذاكرة.
إذن: فالجواب سبب في الشرط أي: سبب دافع إليه، فإذا أردتَ أن يكون واقعًا فقدّم الشرط ليجيء الجواب.
وكما تقول: ركبتُ السيارة لأذهب إلى الأسكندرية، فركوب السيارة ليس سبب ذهابك للاسكندرية، لأنك أردْتَ أولًا الذهاب فركبتَ السيارة، فلما ركبتها وصلتَ بالفعل. إذن: نقول: الشرط سبب للجواب دافعًا يدفع إليه، والجواب سبب للشرط واقعًا.
فهنا نجّاهم الله من الكرب، وأذاقهم رحمته لا ليكفروا به، إنما ليُبيّن لهم أنه لا مفزعَ لهم إلا إليه، فيتمسكون به سبحانه، فيؤمن منهم الكافر، ويزداد مؤمنهم إيمانًا، لكن جاء ردُّ الفعل منهم على خلاف ذلك، لقد كفروا بالله؛ لذلك يسمون هذه اللام لام العاقبة أي: أن كفرهم عاقبة النجاة والرحمة.
ومثال ذلك- ولله المثل الأعلى- لو ضممتَ طفلًا مسكينًا إلى حضانتك وربَّيته أحسن تربية، فلما شبَّ وكَبر تنكّر لك، واعتدى عليك، فقلت للناس: ربَّيته ليعتدي عليَّ، والمعنى: ربَّيته ليحترمني ويحبني، لكن جاءت النتيجة والعاقبة خلاف ذلك، وهذا يدل على فساد التقدير عند الفاعل الذي ربَّي، وعلى لُؤْم وفساد طبع الذي رُبّي.
فالأسلوب هنا {ليَكْفُرُوا} [الروم: 34] يحمل معنى التقريع؛ لأن ما بعد لام العاقبة ليس هو العلة الحقيقية لما قبلها، إنما العلة الحقيقية لما قبلها هو المقابل لما بعد اللام: أذاقهم الرحمة، ونجاهم ليؤمنوا، أو ليزدادوا إيمانًا، فما كان منهم إلا أنْ كفروا.
ولهذه المسألة نظائر كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في قصة موسى: {فالتقطه آلُ فرْعَوْنَ ليَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].
ومعلوم أنهم التقطوه ليكون لهم قُرَّة عين، ولو كانوا يعلمون هذه العاقبة لأغرقوه أو قتلوه كما قتلوا غيره من أطفال بني إسرائيل، وكما يقولون في الأمثال بيربي خنَّاقه.
فهذا دليل على غفلة الملتقط، وعلى غبائه أيضًا، فكيف وهو يُقتّل الأولاد في هذا الوقت بالذات لا يشكّ في ولد جاء في تابوت مُلْقىً في البحر؟ أليس في هذا دلالة على أن أهله يريدون نجاته من القتل؟ لكن كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبه} [الأنفال: 24].
فأنت تُقتّل في الأطفال لرؤيا أخبرك بها العرافون، فسيأتي مَنْ تخاف منه إلى بابك، وستأخذه وتُربّيه في حضنك، وسيكون زوال مُلْكك على يديه، فلا تظن أنك تمكر على الله.
والقصة تدل على خيبة فرعون وخيبة العرافين، فإذا كنتَ قد صدَّقْتَ العرافين فيما أخبروك به فما جدوى قَتْل الأطفال، وأنت لن تدرك مَنْ سيكون زوال مُلْكك على يديه ولن تتمكن منه؟ فلماذا تحتاط إذن؟
لذلك يجب أن يكون تفكير البشر في إطار أن فوق البشر ربًا، والرب يكلف العدو بعدو له ليقضي عليه، وهو سبحانه خير الماكرين، والمكْر الحق أن يكون خُفْية بحيث لا يسشعر به الممكور به.
وقد وصل بنا الحال في القرن العشرين أن نقول: الصراحة مكْر القرن العشرين. يعني: مَنْ أراد أنْ يمكر فليقُل الحق وليكُنْ صريحًا؛ لأننا أصبحنا في زمن قلَّتْ فيه الصراحة وقول الحق، لدرجة أنك حين تُحدّث الناس بالحق يشكُّون فيك، ويستبعدون أن يكون قولك هو الحق، كالذي قال لجماعة يطلبونه ليقتلوه: أنا سأذهب إلى المكان الفلاني في الوقت الفلاني فقالوا: إنه يُضلّلنا ويمكر بنا رغم أنه صادق فيما أخبرهم به.
وبعد أنْ تربَّى موسى- عليه السلام- في بيت فرعون، ثم كلَّفه ربه بالرسالة، وذهب إلى فرعون يدعوه إلى الله قال له: {أَلَمْ نُرَبّكَ فينَا وَليدًا وَلَبثْتَ فينَا منْ عُمُركَ سنينَ} [الشعراء: 18].